رسوم التعريض بالرسول الكريم 01

Publié le par kurt cobain

رسوم التعريض بالرسول الكريم : الأبعاد والتبعات
د.منصف المرزوقي
الخميس 16 شباط (فبراير) 2006.

ما الذي يمكن إضافته من جديد، أو طريف، أو هامّ لهذا الموضوع الذي أسال أنهارا من الحبر في كل ربوع العالم، ونسأل الله أن لا يسيل يوما أنهارا من الدم؟ ربما لاشيء واني وصلت للموضوع متأخرا وقد قيل فيه كل شيء والباقي.

ومع ذلك فليسمح لي بالمشاركة في الضوضاء علني اسمع فيها صوتا أتمنى- دون وهم كبير- أن يكون واحدا من بين أصوات العقل والتعقلّ في زفة المجانين التي تعصف بالعالم حاليا .

وفي البداية حتى نغلق الباب على كل سوء فهم لما سيتبع ،أقول أن نشر الرسوم التي أقامت الدنيا ولم تقعدها في صحيفة دنماركية مغمورة ، ونرويجية أكثر منها تفاهة، وأعادت نشرها صحيفة" شارلي هبدو" الفرنسية المعروفة بتخصصها في الاستفزاز ، عملية سفيهة ، غير مسئولة ولا تواجه إلا بمطلق الاستنكار والإدانة .

لكن الإدانة مبتدأ الخبر لا منتهاه. فلا أسهل من التنديد والمزايدة ولا أصعب من التعامل مع هذه الجمرة الحامية والخبيثة في آن واحد بكل ما تستأهل من تفكير معمق، على قدر خطورة ما تفجرت عنه حمما كالبركان الذي يبدي علامات يقظة لا تنذر بخير. أحاول التفكير بهدوء وبموضوعية في قضية لا تدفع لا على الهدوء والموضوعية، فيبادرها ذهني بالمعالجة على الطريقة الطبية . فالظاهرة ( الرسوم وردود الفعل عليها ) بداهة مجرد عرض يفضح خللا عميقا في جسم بحجم حضارات بأكملها . أما القدرة على العلاج فرهن بالتشخيص الصحيح ولو أن اختصاصي في الطب لا يشمل للأسف طب الحضارات.

السؤال إذن : ما الذي تفضح هذه الأزمة على مستوى تعامل الأمم والشعوب مع بعضها البعض؟
الجهل وسوء النية.

يتصادف أن ظروف الحياة جعلتني أعيش طوال حياتي على تخوم وداخل حضارتين متكاملتين ومتنافستين أعتقد أنني بدأت أفهم بعض خصائص كل واحدة وبعض أسباب الجفاء بينها .

وهذه الوضعية هي التي تمكنني اليوم من الانتباه إلى عمق الجهل وسوء الظن الذي تظهره كل أطراف النزاع.

ثمة في البداية جهل الطرف الغربي الضالع في العملية (لا حظ أنني لا أقول الغرب) وسوء نيته.

فهذا الطرف يجهل أن علاقته بالمقدس ليست علاقة شعوب أخرى وأن علاقته هذه الشاذة وليست القاعدة والشاذة تحصى ولا يقاس عليها. لكن الطرف الغربي ، في إطار عجرفة كل حضارة منتصرة، يعتبر أن على الشاذة أن تكون القاعدة وعلى الشاذة أن تكون القاعدة.

ثمة أيضا سوء النية بخصوص قضية حرية الرأي والتعبير التي يشهرها هذا الطرف في وجه المحتجين على نشر هذه الرسوم. يخيل لك وأنت تقرأ لمن يلعبوا ورقة هذه الحجة أنهم يسخرون من ذكائك ...أو من إطلاعك على جملة المبادئ التي أسست لحرية تؤطرها قوانين تمنع الثلب والتحقير والافتراء وتعاقب عليها. فلا وجود في أي من البلدان الديمقراطية لمبدأ حق في المطلق وحرية غير مشروطة.

انظر الآن لهيكلية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان . ستجد فيه جملة من الحقوق والحريات مثل الحق في الكرامة ( البند الأول) والحق في المعتقد (البند الثامن عشر) والحق في السلم(الديباجة) وبالطبع الحق في حرية الرأي (البند التاسع عشر). لكن الخاصية في هذه الحقوق أنها مترابطة ببعضها البعض ، أنها تكمل بعضها البعض ، أنها تحدّ بعضها البعض. لا يمكن لحق الرأي أن ينقض الحق في السلام ولا الحق في الكرامة ولا الحق في المعتقد وإنما عليه الدفاع عنها. كذلك على المؤمنين بكرامة الإنسان الدفاع عن حق الرأي والمعتقد طالما لم يتصدى لحقوق الآخرين.

قد يبدو هذا الكلام من قبيل السفسطة . لنجرب مدخلا آخر لا أظن أنه وقع طرق بابه وهو من ميدان الأخلاق. كلنا نعرف بالسليقة أن الشجاعة فضيلة إذا مورست في حدود، لكنها إذا تجاوزت نقطة أو حدّ تصبح تهورا أي رذيلة لا تخدم الأهداف التي تخدمها فضيلة الشجاعة وإنما تتهددها. كذلك الأمر عن الكرم الذي يصبح إن تجاوز هذا الحد إسرافا والاقتصاد بخلا والصراحة قلة أدب الخ .

المشكلة أن الانتباه للحد والتوقف عنده قضية ذكاء وخبرة وتجربة ، أن تجاوزه هو القاعدة عند الأغبياء والمبتدئين والجهلة والمرضى النفسيين، وأحيانا ، ولو عرضا، حتى من قبل أناس طيبين وأذكياء ، لأنه لا أصعب من ممارسة الفضائل ( والعيوب) في الحدود التي تجعلها في خدمة الحياة لا ضدها.

معنى هذا أن ما لم ننتبه إليه جميعا أن وراء هذه الزوبعة كمشة من الأغبياء لم يتعرفوا على الحد وتجاوزوه . أي مؤرّخ همام سيكتب يوما تاريخ الغباء ودوره في تسيير شؤون البشر؟

والآن ماذا عن الجهل وسوء النية عند الطرف العربي-الإسلامي. ثمة طبعا الجهل المعاكس أي جهل العرب والمسلمين أن علاقتهم بالمقدس ليست علاقة كل الشعوب.

أذكر المفاجأة التي صدمتني وأنا طالب في السبعينات عندما نشرت جريدة" شارلي هبدو" (التي أعادت هذا الأسبوع نشر الرسوم ) كتابا كاملا لأحد أبرز رساميها هو ’’ كافانا’’ يقلد التوراة والإنجيل ويسخر فيه بأقذع الصور والكلمات من كل ما ورد فيه .

ثمة أيضا الجهل بأن الرسوم المعادية للإسلام أمر شائع ومنتشر في الغرب منذ المواجهة العسكرية الأولى بين الحضارتين. من يعرف منا مثلا أن اغلب النقوش على جدران الكاتدرائيات هي رسوم تسخر من الرسول الكريم وتصوره على شكل شيطان يعرف تحت اسم Baphomet والتلميح واضح بما فيه الكفاية.

ثمة أيضا جهل كل الذين طالبوا رئيس حكومة الدنمارك بالاعتذار لأنهم يتصورون أن الصحف في الدنمارك على شاكلة صحفنا وأنها تتلقى تعليماتها من وزارة الإعلام والدعاية، لا يتصورون أن هذه الصحف تسلخ جلد المسكين طول حكمه وانه لا سلطة له عليها مطلقا. ماذا الآن عن سوء النية التي نجدها دوما وراء موقف" افعلوا ما أقول ولا تفعلون ما أفعل".

نحن لا نسخر من موسى وعيسى لأن الإسلام يعتبرهما نبيان لا يجوز المساس بهما. لكن انظروا للرسوم التي تظهر منذ عقود في صحفنا عن اليهود وسترون أنها لا تقل عنصرية عن الرسوم التي رسمتها عنهم الصحف النازية والتي ترسم عنا أحيانا في الصحف العنصرية الغربية.

أليس من المخجل أن يرد رئيس دولة إسلامية مثل إيران على تصرف أحمق بتصرف لا يقل حمقا بالإعلان عن مسابقة رسوم بخصوص المحرقة وكأنه يمكن الضحك والإضحاك بموضوع كهذا.

لقد بدأت ردود الفعل الرسمية على هذه الحماقة حيث احتج Wolfgang Schüssel الرئيس الحالي للإتحاد الأوروبي عليها والبقية ستأتي لمزيد من صب الزيت على النار.

يتحدث الكثير عن صدام الحضارات لكن رشيد بن زين محق في قوله في مقال نشرته صحيفة libération أننا أمام صدام ’’غباءات ’’
اتساع الهوة بين الحضارتين

الخلل الثاني الذي تفضحه قضية الرسوم هو توسع الفجوة بين الحضارتين. هي في الواقع مؤشر على التدهور السريع بين العالم العربي والإسلامي والغرب والمنعطف فيه كارثة الحادي عشر من سبتمبر المشئومة.

المصيبة أن كل طرف يعتبر نفسه الضحية والآخر هو المعتدي. من السهل نتصور لسان حال الطرف العربي والمسلم وهو يقول: لا يكفي أن عادوا للاحتلال العسكري المباشر على طريقة القرن التاسع عشر في العراق وأفغانستان ...لا يكفي أنهم يمتصون خيراتنا....لا يكفي أنهم يدعمون الدكتاتوريات التي تقهرنا .... لا يكفي أنهم يتشدقون بالديمقراطية في العراق ويرفضون نتائجها عندما لا تروق لهم في فلسطين ..... .والآن ها هم يتهجمون على أقدس مقدساتنا. لكنه ليس من السهل علينا تصور لسان حال الغربي وهو يقول: لا يكفي أنهم هاجمونا في عقر دارنا في نيويورك ومدريد ولندن ، لا يكفي أنهم طردونا من بلدانهم ولحقوا بنا في بلداننا، لا يكفي أنهم يضعون علينا كل أسباب إخفاقهم....والآن يريدون فرض قيمهم علينا ومنها الحد من الحريات التي اكتسبناها بالعرق والدم والدموع .

لا بد من تقدير عمق القطيعة التي تظهرها هذه المواقف ، لكن الأهم هو الانتباه لما تعبر عنه هذه الشكاوى والتهم المتبادلة من خلط وتعميم . ففي الغرب هناك خلط متواصل بين الإسلام والمسلمين والمتطرفين الدينيين . هو خلط لا يقل عشوائية وسذاجة وتعميما وجهلا عن الذي تمارسه شعوبنا ونخبنا التي يفترض منها إنارة السبيل لها وليس الانزلاق في أخطائها.

إذا كان من مسئولية المثقفين والإعلاميين والسياسيين الغربيين النزيهين فضح الخلط ووضع الحدود والفوارق ، فكم من مثقف وإعلامي وسياسي عربي له الشجاعة هذه الأيام للتذكير بأن الغرب ثلاث ’’ غربات’’ لا يجوز مطلقا الخلط بينها : غرب الحضارة وغرب الدول سواء في أوروبا أو أمريكا وغرب المجتمعات المدنية ، و أنه من واجبنا ومن مصلحتنا الأخذ بأحسن ما في الحضارة ، ومن واجبنا ومن مصلحتنا التعامل بأقصى الحذر مع الدول ، ومن واجبنا ومن مصلحتنا تنمية التعاون والثقة مع المجتمعات المدنية.

Publié dans tunisie

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article